كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن غرض وصف: {الذين أنعمتَ عليهم} بأنهم: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالًا.
والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديمًا واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم.
وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المرادين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلًا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخًا لهما.
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدًا، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني.
وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضًا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلًا منهما صار عَلَمًا فيما أريد التعريض به فيه.
وقد تبين لك من هذا أن عطف: {ولا الضالين} على: {غير المغضوب عليهم} ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم: {المغضوب عليهم} على: {ولا الضالين} لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل.
والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ.
وحقيقة الغضب المعروففِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام.
والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية.
وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.
وكان السلف في القرن الأول ومنتصففِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بدًا من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده. وكلّ فيما صنعوا على هُدى.
وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبدًا.
وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث: «ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال»، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكويننِ،: {ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7]: {ولو شاء ربك ما فعلوه} [الأنعام: 112]: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا} [يونس: 99] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام.
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي: الحكمة والعفة والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة، وثباتُ القلب في المخاوف، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبيء صلى الله عليه وسلم «أن رجلًا قال له أوصني قال: لا تغضب فكرَّرَ مِرارًا فقال: لا تغضب» رواه الترمذي.
وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال: لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب.
فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان، ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصًا الدينية وقد ورد أن النبيء كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله.
وقوله: {ولا الضالين} معطوف على: {المغضوب عليهم} كما هو متبادر، قال ابن عطية، قال مكي ابن أبي طالب إن دخول لا لدفع توهم عطف {الضالين} على {الذين أَنْعَم عليهم} وهو توجيه بعيد فالحق أن لا مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ {غير} على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} [المائدة: 19] وهو أسلوب في كلام العرب.
وقال السيد في حواشي الكشاف لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها، وليست زيادة لا هنا كزيادتها في نحو: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 12] كما توهمه بعض المفسرين؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي.
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم، ومنه ضالة الإبل، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا.
والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر.
وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ.
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدًا تَحمِل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.
والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده.
وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأن الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظًا من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضبًا شديدًا لأن ضلالهم شنيع.
فاليهود مَثَل للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبيء صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي وحسَّنه.
وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن.
وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.
فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمدًا فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة.
والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77].
وفي وصف الصراط المسؤول في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا} [الأنعام: 161] وقال: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم «من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلاففِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلاففِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى: {إنك على الحق المبين} [النمل: 79].
واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله: {أنعمت عليهم} وقوله: {غير المغضوب عليهم} وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصًا من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر.
وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين.
وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء.
وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير.
واختلفوا أيضًا في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا: {عليهم غير المغضوب عليهم} بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة: {غير المغضوب عليهم} وهي لغة بعض العرب وعليها قول لبيد:
وهمو فوارسها وهمْ حكامها

فجاء باللغتين، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو: {غير المغضوب عليهم} وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف. اهـ.